بقلم حلمي الأعرج
نظراً لاعتبار التعذيب أسلوباً من أكثر الانتهاكات الجسيمة للحقوق الأساسية للمواطن، واستناداً إلى كافة المواثيق والاتفاقيات التي حرّمت التعذيب. وحظرته بشكل مطلق كاتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة والبروتوكلات الإضافية الملحقة بهما، واستجابة للتوجه الوطني الفلسطيني العام بمناهضة التعذيب ومنعه وفقاً للمادة “13” من القانون الأساسي، تداعت مجموعة من المؤسسات الحقوقية والأهلية الفلسطينية منتصف العام 2009 إلى تشكيل الائتلاف الفلسطيني لمناهضة التعذيب والذي يضع في صلب أهدافه الإستراتيجية مناهضة التعذيب بكافة أشكاله ويسعى إلى إقامة مجتمع فلسطيني خالي من أي مظهر من مظاهر التعذيب، ومن أجل ذلك كله ساهم الائتلاف ولا زال في كافة الأنشطة الجماهيرية والمؤسساتية التي تدعو إلى مقاومة التعذيب والحد منه.
ومن منطلق القناعة الراسخة في ضرورة تفعيل وتنشيط منظومة مناهضة التعذيب وتطوير القوانين التي تدعو إلى تحريمه ومنعه، يرى الائتلاف أنه من الضروري جداً الرقي بآليات الرقابة القانونية لمنع حدوث التعذيب والسعي الحثيث لملاحقة مرتكبي جرائم التعذيب ومسائلتهم قانونياً.
إن الزيارات المنتظمة لجميع أماكن الحجز والاعتقال والتوقيف والتحقيق تعد من أكثر الوسائل فعالية للوقاية من التعذيب، ويرى الائتلاف الفلسطيني أنه بات من الضروري جداً تفعيل العمل باتجاه تكثيف الزيارات الميدانية لسجون الاحتلال الإسرائيلي وكذلك زيارة السجناء لدى أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية وفي هذا السياق ينظر الائتلاف بايجابية لاستجابة الأجهزة الأمنية الفلسطينية لهذا التوجه وقيامها بتشجيع احترام مبادئ حقوق الإنسان وإشراك أفرادها العاملين في أقسام التوقيف والتحقيق في الدورات التدريبية المتعلقة بحقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، مما ساهم عملياً في تعزيز أواصر التعاون لنشر ثقافة حقوق الإنسان وسيادة القانون وضمان احترام القواعد القانونية الدولية والإقليمية والوطنية الخاصة بالوقاية من التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة. وفي الجهة المقابلة فإن الائتلاف الفلسطيني لا زال ينظر بعين الخطورة والقلق من استمرار السلطات الإسرائيلية في انتهاك حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية وداخل المعتقلات والسجون التي يتعرض فيها الأسيرات والأسرى إلى أسوأ وأبشع معاملة ويواجهون ضروباً مختلفة من التعذيب منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم وأثناء التحقيق معهم وصولاً إلى وجودهم في غرف الاعتقال حتى لحظة انقضاء فترة محكوميتهم أو اعتقالهم.
لقد مارست السلطات الإسرائيلية ولا زالت التعذيب بكافة أشكاله لا بل قامت بتشريعه وإقراره، وهي بذلك تتحدى القانون الدولي وتخترق المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، ولعل ما يحدث من تداعيات إثر إقرار تقرير غولدستون وما سبق ذلك أثناء منع السلطات الإسرائيلية المقرر الخاص لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة ريتشارد فولك من زيارة المناطق الفلسطينية واحتجازه في المطار يدل على ضرورة أن يتخذ المجتمع الدولي موقفاً حازماً وصارماً ضد هذه السلطات التي ترتكب أفظع الجرائم بحق الإنسانية.
ومن هنا الائتلاف الفلسطيني يدعو إلى تطبيق القانون الدولي على مرتكبي الجرائم من القادة والمسؤولين الإسرائيليين وتقديمهم للمحكمة الدولية أينما ومتى تم إلقاء القبض عليهم.
إن الائتلاف الفلسطيني إذ يؤكد على أن جرائم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان لا تسقط بالتقادم وفق قواعد القانون الدولي الإنساني، يود أن يوضح أنه وبحكم عمله يقوم بتنفيذ مجموعة من الأنشطة تهدف إلى حث الحكومات والمؤسسات والبرلمانات والمنظمات غير الحكومية بما فيها مؤسسات الأمم المتحدة، على إنشاء آليات فعالة للمسائلة والوقاية من التعذيب، كما ويقوم الائتلاف بحشد الدعم الكبير لاتفاقية مناهضة التعذيب ويساهم في نشر أدوات عملية للوقاية منه.
ومن أجل تعزيز ذلك أكد الائتلاف في أكثر من مناسبة على ضرورة تفعيل النشاط الإعلامي الفاضح لانتهاكات حقوق الإنسان وإصدار البيانات والنشرات والوثائق الداعية للقضاء على كافة أشكال التعذيب والإساءة، والانتهاك، ودعا بشكل قوي إلى ضرورة خلق آليات تعاون وتواصل وتشبيك بين كافة المؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان، وكذلك تدريب وإعادة تأهيل الأسرى المحررين من سجون الاحتلال الإسرائيلي وتقديم العلاج لمن يعاني منهم آثار التعذيب الذي مورس ضدهم أثناء فترة الاعتقال، مشيراً إلى أن الأسرى المحررين هم قنابل موقوتة في ظل إهمالهم بسبب أوضاعهم الاقتصادية والنفسية والاجتماعية ونتيجة لحاجتهم الماسة إلى العمل.
إن مناهضة التعذيب والوقاية منه تتطلب صياغة خطة وطنية متكاملة، لا سيما وأن الأحداث الداخلية في قطاع غزة قد أظهرت أنماطاً متعددة لانتهاك حقوق المواطن وممارسة العنف والعنف المسلح وما نجم عن ذلك من انقسام حاد واقتتال وإراقة دماء الأمر الذي يتطلب الإسراع في إنجاز المصالحة الفلسطينية الداخلية.
إن الائتلاف الفلسطيني وفي سبيل تحقيق الإستراتيجية والوطنية في مناهضة التعذيب والوقاية منه يؤكد على:-
1. ضرورة تعزيز الحماية من التعذيب ومن ضروب المعاملة القاسية واللاانسانية وتحسين معاملة الأشخاص المحررين من حريتهم.
2. العمل على تطوير القوانين القائمة والتشريعات المعمول بها بما يساهم في تحقيق مناهضة التعذيب والقضاء على كافة أشكاله.
3. تنظيم الزيارات الميدانية إلى أماكن التوقيف والتحقيق والاعتقال والإطلاع على الأوضاع الإنسانية فيها ومن هنا فإن الائتلاف يدعو لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لزيارة السجون الإسرائيلية والإطلاع على أوضاع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين والعرب فيها.
4. حصر حالات التعذيب وتوثيقها ومتابعتها بشكل قانوني ومحاسبة المسؤولين عنها.
5. تنظيم الحملات القانونية والحقوقية وتفعيل الدورات التثقيفية وإصدار النشرات التي تدعو إلى احترام حقوق الإنسان ومنع الانتهاكات ووقف التعذيب.
6. تحديد التدابير اللازمة لمنع تكرار أعمال التعذيب واتخاذ الإجراءات القانونية لمحاسبة مرتكبيها وإثبات الحق بالتعويض والتأهيل لكل من تعرض للتعذيب والعمل المتواصل على معالجة ضحاياه.
على مدى أربعة عقود من الاحتلال تعرض عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي والإهمال الطبي وإطلاق النار والرش بالغاز الخانق داخل الغرف المغلقة وسقط جراء ذلك (199) شهيداً ولكن بسبب قناعة هؤلاء الأسرى المعذبين بعدالة قضيتهم لا تظهر عليهم آثار التعذيب النفسية والاجتماعية بقدر حجم وكم التعذيب الذي يتعرضون له ومن زاوية التحدي للاحتلال وممارساته وجرائمه يظهر هؤلاء الأسرى درجة عالية من التماسك ليشكلوا نموذجاً في الصمود أمام شعبهم في مقارعة الاحتلال لحثهم على المقاومة بدلاً من الخضوع للاحتلال والخوف منه.
ورغم ذلك فإن للتعذيب الذي مورس عليهم آثاراً سلبية هائلة سواء من الناحية النفسية والاجتماعية أو الاقتصادية الأمر الذي يستدعي تدخلاً دائماً من قبل مؤسسات المجتمع المدني ذات الاختصاص ومن المجتمع الفلسطيني والدولي ليتحمل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية تجاه هذه الفئة الواسعة من أبناء الشعب الفلسطيني.
إن الكثير من آثار التعذيب وسوء المعاملة غير معروفة، وما نعرفه في كثير من الأحيان هو أن للتعذيب أو سوء المعاملة آثار نفسية وجسدية مترتبة عليها وقد تستمر مدى الحياة، وغالباً ما يتم التغاضي عن الضرر النفسي فالأفراد الذين يعانون من أحد أنواع التعذيب أو سوء المعاملة هم عرضة لاضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق واسترجاع الذاكرة وضعف التركيز، وقد تتفاقم هذه الظواهر إلى ما هو غير متوقع كالانعزال الشديد عن الآخرين أو الانتحار.
ومن هنا، فإن وضع استراتيجيات للوقاية من التعذيب والعلاج منه باتت من أهم الخطوات العملية المطلوبة، ولعل قضية وجود طبيب مختص لمتابعة ضحايا التعذيب هو أول الخطوات المطلوبة لطريق العلاج والتقارير الطبية هي أدوات مستقلة لتقييم إصابات الأشخاص وهي أدلة ضد مرتكبي التعذيب وسوء المعاملة.
والخطوة الثانية هي توثيق جميع النتائج والأعراف والعلامات النفسية التي تؤكد وجود تعذيب ومن ثم تقييمها وتحديدها لتكون إحدى المكونات الأساسية في خطة الوقاية من التعذيب.
أما الخطوة الثالثة فتتركز على تعميم ثقافة حقوق الإنسان والمبادئ العامة لمناهضة التعذيب على كافة شرائح المجتمع وتوضيح المخاطر المترتبة على الاستمرار بممارسة التعذيب.
ومن الضروري في استكمال الإجراءات الوقائية أن يتم اعتماد سياسة المسائلة والمحاسبة القانونية لمرتكبي جرائم التعذيب مهما كانت صفتهم ومكانتهم.
ولعل أهم جوانب إستراتيجية الوقاية والعلاج التعذيب هو تبني سياسة شاملة لمعاملة الإنسانية المتمثلة في الوقاية والمناهضة ومساعدة الضحايا، وهذا يتطلب مخزوناً ضخماً من الكفاح ضد التعذيب والاعتقال التعسفي والاحتجاز في ظروف غير إنسانية ومهنية.
إن رعاية وإعادة تأهيل ضحايا التعذيب هي مسؤولية مجتمعية إنسانية بالدرجة الأولى، ولا بد من توفر وسائل العلاج الطبية والنفسية لمساعدة الضحايا في استعادة صحتهم وتعزيز إرادتهم.
وختاماً إننا كائتلاف فلسطيني لمناهضة التعذيب ومعنا مؤسسات المجتمع المدني في فلسطين سوف نواصل عملنا في مناهضة التعذيب لتوثيق وفضح الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية والعمل من أجل محاسبة مرتكبي هذه الجرائم من الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية وأيضاً من أجل الوصول لمجتمع فلسطيني خالي من التعذيب.