أثارت الحملة المستمرة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد مشروع قانون حماية الأسرة من العنف مجموعة من الأسئلة، أهمها ما مدى صحة الربط بين مسودة مشروع القانون واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، هذا الربط الذي لا يأخذ بعين الاعتبار أن الأسرة محل الحماية من العنف تتكون من الرجال والنساء والأطفال وكبار السن ولا يقتصر مفهومها على المرأة فقط، والجدير ذكره في هذا السياق أن مشروع قانون حماية الأسرة من العنف يتضمن إجراءات وتدابير خاصة تتلاءم مع طبيعة الأسرة وتكوينها، أهمها عدم اعتبار ايقاع العقوبة هدفاً بحد ذاته، بل يولي مشروع القانون العناية بضرورة إصلاح وتأهيل الجاني والضحية، آخذين بعين الاعتبار ارتباطهما برابطة الدم التي يوجد استحالة اجتماعية في الانفكاك منها، والملاحظ أن الجدل الدائر حول هذا الموضوع لا يمكن اعتباره حوار مجتمعي بنّاء، لأنه مبني على التزمت والتمسك بوجهات نظر قائمة على أسس لا تحترم الموضوعية والدقة في الطرح، الأمر الذي أدى إلى انسداد أفق حوار جدي يراعي المصالح الجوهرية التي تخدم المجتمع.
هذا الانسداد في الحوار المجتمعي يستفيد منه ويغذيه بعض التيارات الدينية في المجتمع، بالإضافة إلى جهات متنفذة بالحكومة لها موقف سلبي من منظومة حقوق الإنسان بشكل عام، يترجم بصورة مختزلة بالموقف المعادي لاتفاقية سيداو، وقانون حماية الأسرة من العنف، وهذا ما يفسر الربط غير المنطقي بين مسألة القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ومحاربة العنف الأسري والعنف ضد المرأة، لذلك نجد من الضروري حل هذه المشكلة خصوصاً في ظل غياب المجلس التشريعي، من خلال تغيير الأدوات الحقوقية المستعملة من المؤسسات العاملة في المجال، لأن هذه الأدوات لم توفر مساءلة جدية من شأنها محاسبة المكلفين بإنفاذ القانون على إنكارهم لوجود العنف الأسري وكذلك المماطلة بإصدار قانون حماية الأسرة من العنف، ويكون ذلك من خلال البحث عن أدوات جديدة لمعالجة العنف القائم على التمييز في المجتمع وتحديداً العنف ضد المرأة، بشكل خاص ومباشر بمعزل عن الهدف الاستراتيجي الذي يعتمد على تمتعها الكامل بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لخدمة الهدف المنشود لا بدّ من التأكيد على أن التحدي الراهن في مجال حقوق الإنسان، يتمثل في تنفيذ معايير حقوق الإنسان المعمول بها حالياً بهدف القضاء على العنف ضد المرأة وأسبابه الجذرية، وأن تعدد أنواع العنف الممارس ضد المرأة في المجتمع، مسألة تحتم بالضرورة اعتماد آليات متعددة لمكافحته، الأمر الذي يعتبر غاية في الأهمية لضمان تحقيق الأهداف المتوقعة منها، آخذين بعين الاعتبار أن ظاهرة العنف ضد المرأة هي نتيجة لعلاقات غير متكافئة بين الرجل والمرأة عبر التاريخ أدت إلى هيمنة الرجل على المرأة وممارسته تمييزاً ضدها، هذا التمييز حال دون نهوضها الكامل والتمتع بحقوقها، لهذا نعتقد أن مسألة التصدي للعنف ضد المرأة من حيث الممارسة يجب تجزئتها وعلاجها بشكل منفرد بمعزل عن القضية الأوسع نطاقاً وهي تمتع المرأة بكافة حقوقها دون تمييز.
بناءً على ما ذكر أعلاه لا بدّ من التذكير بأن انضمام الدولة لمعاهدات ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ يحملها ﺍﻟﺘﺰﺍﻣﺎﺕ، تتمثل باحترام وحماية ﺗﻠﻚ الحقوق التي تتضمنها، وتنفيذها، ﻭﺗﻌﺰﻳـﺰﻫﺎ وﻳﺸﻤﻞ ﺃﻳﻀاً ﺍﻟﺘﺰﺍﻣﺎً ﺑﺘﻮﺧﻲ احترام مبدأ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍﻟﻮﺍﺟﺒﺔ لتطبيق أحكامها، هذا المبدأ الذي يحمّل الدولة مسؤولية عن العنف المرتكب من أفراد أو أشخاص غير موظفيها الرسميين، لذا يقع على عاتق الدولة واجب الحماية من هذه الأفعال، وبهذا المعنى جاءت دعوة لجنة ﺍﻟﻘﻀﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺿﺪ المرأة (لجنة سيداو) للدول المنضمة للاتفاقية في عام (١٩٩٢) بتوصيتها ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺭﻗﻢ 19 إلى الحرص ﻋﻠﻰ ﻣﻨﻊ ﺍﻟﻌﻨﻒ ﺿﺪ المرأة ﻭﺍﻟﺘﺼﺪﻱ ﻟـﻪ باستخدام معيار العناية الواجبة.
على إثر ما ورد أعلاه صدرعن الجمعية العامة للأمم المتحدة ﺇﻋﻼﻥ القضاء على العنف ضد المرأة ﻋﺎﻡ 1993، وﻳُﻠﺰِﻡ هذا الاعلان ﺍﻟﺪﻭﻝ بتطبيق مبدأ العناية الواجبة والحرص ﻋﻠﻰ ﻣﻨﻊ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻌﻨﻒ ﺿﺪ المرأة ﻭﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻓﻴﻬﺎ والمعاقبة ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﺑﺼﺮﻑ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻋﻤﺎ ﺇﺫﺍ ﺍﺭﺗﻜﺒﺘﻬﺎ ﺃﻃﺮﺍﻑ ﺧﺎﺿﻌﺔ ﻟﻠﺪﻭﻟﺔ ﺃﻡ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﻨﻬﺎ. ومفهوم العناية الواجبة بهذا الشكل يوفر معياراً لتحديد ما إذا عملت دولة أم لم تعمل على الوفاء بالتزاماتها في مجال مكافحة العنف ضد المرأة، ﻭﺃﻋﻴﺪ التأكيد على ﻫﺬﺍ المعيار في ﺍﻟﻔﻘﺮﺓ 125 ﻣﻦ ﻣﻨﻬﺎﺝ ﻋﻤﻞ “بيجين” ﻟﻌﺎﻡ 1995، والمهم ذكره في هذا السياق أن تطبيق معيار العناية الواجبة أظهر العديد من العيوب في محاربة العنف ضد المرأة وأهمها اقتصاره حتى الآن على مواجهة العنف لدى وقوعه، وكذلك التركيز على الإصلاح التشريعي وإقامة العدل وتوفير الخدمات، أما فيما يتعلق بالالتزام الأهم وهو الوقاية من أعمال العنف فأثره قليل نسبياً، بما في ذلك على صعيد تغيير الهياكل والقيم الأبوية القائمة على نوع الجنس التي تديم العنف ضد المرأة وترسخه في تفكير المجتمع والأفراد ومن ضمنهم المكلفين بإنفاذ القانون.
هذه القيم المترسخة لموظفي الدولة الرسميين، تؤثر على مستوى الجدية والمصداقية بمحاربتهم للعنف ضد المرأة، ويكون تصرفهم بمواجهته منسجم في الغالب مع الأفكار النمطية السائدة في المجتمع، الأمر الذي يغلق دائرة الحلول التي من شأنها القضاء على هذه الظاهرة المجتمعية، وينتح عنها دوران في حلقات دائرية مفرغة، حيث أن الحركة والتقدم بها توصلنا بكل تأكيد إلى نقطة البداية، دون نتائج جوهرية من شأنها تغيير الصورة النمطية السائدة في المجتمع اتجاه المرأة، وهذه المعادلة تفسر الجدل الدائر والمستمر في أوساط الحكومات الفلسطينية المتعاقبة على مسودة قانون حماية الأسرة من العنف منذ زمن طويل بالرغم من إضافة الجهات الحكومية ذات الاختصاص ملاحظاتها على عدد من مسودات مشروع القانون، التي توالت بالصدور منذ ما يقارب (16) السنة مضت وكان أولها عام 2004.
بالاستناد إلى تفسير المعادلة المذكور أعلاه يجب مواجهة تعدد أشكال العـنف ضـد المرأة، بالاعتماد على استراتيجيات متعددة الجوانب لمنعه ومكافحته بفعالية، حيث تعتبر هذه المسألة ضرورية، بسبب أن هذا النوع من العنف في معظم الأحيان يكون نتاجاً لأنواع مختلفة من التمييز، لذا يجب إعادة التفكير في معيار العناية الواجبة بعد أن ظهرت عيوبه كما ذكرنا سابقاً، اّخذين بعين الاعتبار آلية بسيطة لفحص وقياس النتائج تعتمد على حالة العنف الممارس ضد المرأة وما يقابلها من إجراءات حكومية متخذة لمحاربته، الأمر الذي يؤشر إلى النوايا نحو تأييد الوضع القائم لمسألة العنف القائم على التمييز في المجتمع الفلسطيني، بالنظر إلى مصلحة الجهات المستفيدة باستمرار صوره النمطية السائدة، وبناءً على ما ذكر أعلاه، نجد ضرورة في البحث عن معيار مختلف يحمّل المسؤولية للدولة عن أفعال العنف الممارسة ضد المرأة والمرتكبة في سياقات اجتماعية معينة، بما في ذلك المسؤولية الجزائية المباشرة للمكلفين بإنفاذ القانون عن العنف القائم على التمييز في المجتمع يتضمن العناصر التالية:-
1- التزام الدولة (الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون) بتغيير القيم الاجتماعية ومؤسساته التي تكرس عدم المساواة بين الجنسين، وفي الوقت ذاته مواجهة العنف بفعالية لدى وقوعه.
2- اشتراك الدولة والأطراف الاجتماعية الأخرى من أشخاص ومؤسسات بالمسؤوليات فيما يتعلق بالوقاية ومواجهة العنف وغيره من انتهاكات حقوق الإنسان.
3- ضمان تغيير الصورة النمطية السائدة لدى المكلفين بإنفاذ القانون (الموظفين العموميين) حول العنف القائم عن التمييز في المجتمع، وتحميلهم المسؤولية الجزائية عن استمراره، وعدم المحاسبة على إرتكابه، وكذلك عدم جواز تبرير استمرار وجوده، تحت طائلة المسؤولية الجزائية.
4- المسؤولية الجزائية للدولة عن الأفعال الإيجابية لموظفيها العموميين والمتعاقديين معهم من الخواص، فيما يتعلق بالموافقة على أفعال تشكل عنف ضد النساء من أفراد أو جماعات خاصة فاعلة، أو دورهم السلبي المتمثل بالسكوت عن استمرار هذه الأفعال وعدم اتخاذ المقتضى القانوني المناسب للعقاب عليها.
5- يعتبر مبدأ عدم التمييز مبدأً أساسياً وعامّاً في حماية حقوق الإنسان وجوهرياً لتفسير اتفاقية مناهضة التعذيب وتطبيقها ويندرج جانب عدم التمييز ضمن نطاق تعريف التعذيب بحد ذاته في المادة الأولى من الاتفاقية التي تحظر صراحة أفعالاً محددة حينما تنفّذ “لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه” عندما يرتكبها أو يحرض أو يوافق عليها أو يسكت عنها موظف رسمي أو متعاقد معه.
ما ذكر أعلاه يشكل معياراً من معايير حقوق الإنسان، نعتقد أنه يخدم بفاعلية معالجة الانسداد الحاصل داخل أروقة الحكومة الفلسطينية، فيما يتعلق بعدم رغبة بعض الموظفين المتنفّذين فيها بإصدار قانون حماية الأسرة من العنف، وكذلك عدم مواجهتهم لاّثارهذا الانسداد الاجتماعية التي انعكست على شكل حملات تحريضية منظمة على شبكات التواصل الاجتماعي ضد إصدار القانون، دون مراعاة أصول ومعايير حرية الرأي والتعبير التي نحترم ونبجل، وأيضاً يفيد هذا المعيار في تسمية هذه الأفعال التحريضية بمسمياتها الحقيقية التي تنسجم مع المعايير القانونية الدولية لحقوق الإنسان، التي تعتبر أن ارتكاب موظفي الدولة الرسميين أو موافقتهم أو تحريضهم أو سكوتهم عن العنف القائم على التمييز في المجتمع شكل من أشكال التعذيب.
هذا المعيار يمكن استخدامه عندما نريد التكييف القانوني لواقع العنف الممارس ضد المرأة الفلسطينية، وأيضاً حالة استمرار العنف الأسري وما يقابلها من الإجراءات الحكومية المتخذة فعلياً على أرض الواقع، حيث نجد أن الحكومة موافقة ضمنياً على استمرار العنف الأسري وتترجم هذه الموافقة الضمنية من خلال السكوت طويل الأمد (كما ذكرنا سابقاً) عن إصدار قانون حماية الأسرة من العنف، هذا بالإضافة إلى تحريض بعض الموظفين الرسميين على العنف ضد المرأة (الوزير الهباش كما ذكر بيان الاتحاد العام للمرأة)، ويعتبر تحريض الموظفين الرسميين على العنف ضد المرأة وموافقتهم الضمنية عليه وسكوتهم عن إصدار قانون حماية الأسرة من العنف شكل من أشكال التعذيب.
أخيراً إن استخدام هذا الوصف القانوني للعنف الممارس ضد المرأة باعتباره شكل من أشكال التعذيب، برأينا يشكل ضمانة حقيقية لمحاسبة الموظفين الرسميين عن العنف القائم على التمييز في المجتمع، وهذه الضمانة تستند إلى نص المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب التي سوف تكون جزء من قانون العقوبات الفلسطيني في المستقبل (مشروع القانون العقوبات لعام 2003)، الأمر الذي يوفر الملاحقة الجزائية المباشرة أمام المحاكم، ويساهم أيضاً بشكل أكثر فاعلية بالضغط على الحكومة للتسريع في اتخاذ الإجراءات والتغيير في السياسات فيما يتعلق بالعنف القائم على التمييز في المجتمع، وكذلك إصدار قانون حماية الأسرة من العنف، آخذين بعين الاعتبار أن الدول في العلاقات الدولية تتعامل بدرجة عالية من الحساسية مع الوصم الواقع عليها من جراء ارتكاب جريمة التعذيب بالمقارنة مع غيرها من الانتهاكات بدرجة أقل كالمتعلقة بمبدأ عدم التمييز ضد المرأة، لذلك أكدنا على مسؤولية الموظفين الرسميين عن التصدي الفعّال للعنف ضد المرأة في المجتمع.