الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني
ضرورة وطنية واستحقاق قانوني وديمقراطي
في الثلاثين من شهر نيسان 2021، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسوماً رئاسياً يحمل الرقم (12) جاء في مادته الأولى “تأجيل الانتخابات العامة (التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني) التي تمت الدعوة لإجرائها بالمرسوم الرئاسي رقم (3) لسنة 2021م الصادر بتاريخ 15/1/2021م، إلى حين توفر شروط إجرائها في الأراضي الفلسطينية كافة، وفي مقدمتها القدس العاصمة، وفقاً لأحكام القانون”.
لقد كان لهذا التأجيل أكبر الأثر على عموم المجتمع الفلسطيني والرأي العام الذي انتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر ليعيد الاعتبار للحياة الديمقراطية الداخلية ويقطع الطريق على الاحتلال الإسرائيلي وأوساط أخرى في المجتمع الدولي التي تشكك بقدرة الشعب الفلسطيني على إدارة شؤونه بنفسه في ظل عدم إجراء الانتخابات كآلية وحيدة للتداول السلمي للسلطة وإتاحة المجال أمام المواطنين لممارسة حقهم الدستوري ترشيحاً وانتخاباً والتعبير عن ذاتهم وطموحاتهم بالتغيير والمشاركة السياسية في صنع القرار بعد حرمانهم من هذا الحق، منذ أن عُقدت آخر انتخابات تشريعية عام 2006، وفي مقدمتهم جيل الشباب الذي لم تتح له الفرصة لممارسة هذا الحق نهائياً.
كان من المفترض إجراء الانتخابات العامة بتاريخ 24/5/2021، حيث كانت فرصة هامة أمام هذا الجيل وأمام قطاع المرأة وغيرهما من قطاعات شعبنا للمشاركة فيها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بما فيها المشاركة في صنع القرار والسياسات العامة وإيجاد آليات وحلول للمشكلات الراهنة التي تقف حجر عثرة أمام هذا الجيل لبناء مستقبل واعد له ولشعبه وعلى رأسها ظاهرة البطالة الواسعة التي يعاني منها الشباب والخريجين عموماً.
أضاع تأجيل الانتخابات على الشباب فرصة ذهبية كان من شأنها تحقيق أوسع تمثيل لهم في المجلس التشريعي، وكذلك المرأة التي تجاوزت نسبتها في القوائم الانتخابية ال30% وهي الكوتة التي اقرها لهن المجلس المركزي الفلسطيني عام 2015 في دورته العادية السابعة والعشرين.
فكان الخاسر الأكبر بهذا المعنى في عدم إجراء الانتخابات بالإضافة إلى العملية الديمقراطية نفسها، هما قطاعي الشباب والمرأة والقطاعات الوازنة الأخرى في المجتمع الفلسطيني، مما يضع مسؤولية كبيرة على كاهل هذه القطاعات للضغط والعمل الدؤوب المتواصل لإجراء هذه الانتخابات في أقرب فرصة ممكنة لنعيد لهذه العملية اعتبارها ومكانتها ودوريتها، وللمواطن الفلسطيني حقه الطبيعي والدستوري في الانتخاب والترشح والمشاركة السياسية في صنع القرار.
هنا لا بد من التأكيد على أهمية دورية ونزاهة الانتخابات كأحد متطلبات الحياة الديمقراطية في أي مجتمع، وهي على علاقة بمبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات الثلاث التي يجب أن تخضع للنظام السياسي الديمقراطي، وفي الحالة الفلسطينية فبالإضافة إلى أهميتها الديمقراطية، فإن لها أهمية وطنية تتمثل بإعادة بناء شرعية النظام السياسي الفلسطيني وتشكل المدخل السليم لإنهاء حالة الانقسام السياسي في الساحة الفلسطينية وصياغة أسس جديدة للعلاقات الوطنية والشراكة السياسية، ونظراً لهذه الأهمية لا يجوز تعطيل هذه العملية الا اذا حالت دون ذلك ظروف قاهرة لإجرائها.
وكما هو معلوم فإن آخر انتخابات رئاسية جرت في العام 2005، وآخر انتخابات تشريعية جرت في العام 2006، بمعنى أن هذه العملية معطلة منذ ثمانية عشر عاماً، إلى الآن دون مسوغ قانوني مقنع، خاصة وانه أكثر من مرة في هذه الفترة تم إجراء الانتخابات المحلية والتي حافظت على دورية إجرائها، وبالتالي يمكن إجراء الانتخابات العامة ويجب ذلك إذا توفرت الإرادة السياسية لدى الجميع.
لقد تعطلت العملية الديمقراطية بسبب عدم إجراء الانتخابات العامة في موعدها المحدد، رغم أن جميع اتفاقات المصالحة قد أجمعت على وجوب إجرائها كمدخل لإنهاء الانقسام وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وتجديد شرعية النظام السياسي الفلسطيني، وتكريس عملية التداول السلمي للسلطة والحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي وتعزيز السلم الأهلي خاصة في ظل انسداد الأفق السياسي.
ولا شك أن من أهم متطلبات الضرورة والمصلحة الوطنية العليا تتمثل في إجراء الانتخابات العامة لقطع الطريق على سياسة الاحتلال الرامية إلى فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، لضرب المشروع الوطني المتمثل بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وهذا من شأنه الرد على المشروع الإسرائيلي وتكريس الوحدة السياسية والجغرافية بين الضفة والقطاع وفي القلب منها القدس.
إن تعطيل هذه العملية الانتخابية وغياب المجلس التشريعي، بعد أن تم إصدار قرار من المحكمة الدستورية بحله بتاريخ 12/12/2018، على نحو مخالف للقانون الأساسي الفلسطيني الذي لم يعط أي سلطة الحق في حله وأكد على عدم جواز ذلك.
وبالرغم من أن هذا القرار نص على إجراء الانتخابات العامة في غضون ستة أشهر، إلا أنه لم يتم الالتزام به، علماً أن المجلس التشريعي كان قبل ذلك يعاني ولسنوات طويلة حالة من الشلل بسبب الانقسام السياسي، وهذا ما أدى إلى غياب الرقابة على أداء الحكومة والمؤسسات الرسمية الفلسطينية، وتعطل الحياة النيابية، وأدى كذلك إلى استحواذ السلطة التنفيذية على صلاحيات المجلس التشريعي وإضعاف السلطة القضائية.
إن حالة التشظي في النظام السياسي الفلسطيني هذه أدت إلى فتح الباب على مصراعيه لتفرد السلطة التنفيذية بإصدار مراسيم وقرارات بقوة القانون في المجالات الإدارية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية التي أثرت سلبا على حياة الناس، متجاوزة بذلك ما نصت عليه المادة 43 من القانون، التي تعطي مثل هذا الحق عند الضرورة القصوى ولفترة زمنية مؤقته، على أن يتم عرض ذلك على المجلس التشريعي في حال التئامه.
وباعتبار أن إجراء هذه الانتخابات هي حق دستوري للمواطن الفلسطيني، ولا يملك أي طرف الحق في تعطيلها والتنصل من هذه المسؤولية، فإنه لا بد من إجراء حوار وطني شامل ومعمق من أجل تهيئة الأجواء لإجرائها على وجه السرعة، وتذليل العقبات التي تقف في طريق إجرائها وإيجاد الحلول للأسباب التي أدت إلى تعطيلها وعدم إجرائها، هذا ونحن ندرك تماماً أن أولى الأولويات المطلقة التي تقع على عاتق شعبنا في كافة أماكن تواجده هي وقف العدوان وما يرتبط به من جرائم خطيرة، أبرزها الإبادة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية. ونظراً لاستحالة إجرائها في ظل العدوان فإننا ندعو لتهيئة الأجواء لإجرائها وإتخاذ القرار الوطني بذلك في مرحلة ما بعد انتهاء العدوان.
ومن منطلق تقييم التجربة السابقة فإن قرار إجراء الانتخابات العامة في 24/5/2021 وإصدار المرسوم الرئاسي رقم (12) لعام 2021 القاضي بتأجيلها، فقد اتضح بالملموس أن إجراء هذه الانتخابات كان مهماً جداً لإنهاء الانقسام وبناء الوحدة الوطنية وتجديد شرعية النظام السياسي بكافة مؤسساته وإحياء دور المجلس التشريعي وتكريس الفصل بين السلطات وتعزيز سيادة القانون، وليس أدل على ذلك من إصدار الإعلان الدستوري رقم (1) لسنة 2024م، الذي صدر عن السيد الرئيس بتاريخ 27/11/2024 بشأن تعيين نائباً له في حال شغور المنصب، والذي ينص بأنه “إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في حالة عدم وجود المجلس التشريعي يتولى رئيس المجلس الوطني الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً لمدة لا تزيد على تسعين يوماً تجري خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيساً جديداً وفقاً لقانون الانتخابات الفلسطيني وفي حال تعذر اجراؤها خلال تلك المدة لقوة قاهرة تمدد بقرار من المجلس المركزي الفلسطيني لفترة أخرى ولمرة واحدة فقط”.
في حين أن المادة رقم (37/2) من القانون الأساسي الفلسطيني تنص على أنه “إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في أي من الحالات السابقة يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً لمـدة لا تزيد عن ستين يوماً تجرى خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقاً لقانون الانتخابات الفلسطيني”.
إن قرار تأجيل الانتخابات بمرسوم رئاسي يحمل رقم (12) لعام 2021، كان بمثابة إلغاء لهذه الانتخابات حيث مضى على هذا المرسوم أكثر من ثلاث سنوات. بسبب الموقف الإسرائيلي الرامي لمنع مشاركة القدس في العملية الانتخابية، وهذا يعني أن الفيتو الإسرائيلي على مشاركة القدس في الانتخابات قد يمتد لسنوات أخرى مما يعطل العملية الانتخابية إلى أجل غير محدد.
وكان الأجدر في حينه وما زال أن يتم التصدي لهذا القرار ومواجهته بضغط شعبي ووطني وسياسي، والبحث عن اليات متفق عليها وطنياً لإجرائها بغض النظر عن الموقف الاسرائيلي، وتحويل الحق في إجراء انتخابات شاملة لكل الوطن وفي مقدمتها القدس، عنواناً اضافياً لمعركة وطنية يخوضها الشعب الفلسطيني من أجل حقه في انتخابات حره ومباشرة ونزيهة يشارك فيها إعمالاً لحقهم الطبيعي والقانوني المنصوص عليه في القانون الأساسي.
ومن منطلق مسؤولية مركز الدفاع عن الحريات وإدراكه لأهمية وضرورة إجراء هذه الانتخابات بعد وقف العدوان الاسرائيلي على شعبنا وتهيئة الأجواء الملائمة لإجرائها عبر حوار وطني شامل، فقد نظم لهذا الغرض، بالتعاون مع لجنة الانتخابات المركزية عدة لقاءات مع طلبة الجامعات في كل من بيرزيت والنجاح والكلية العصرية الجامعية وكذلك مع القوى السياسية والمجتمع المدني والمؤسسات الوطنية في الخليل ونابلس وشمال غرب القدس، أظهرت فيها الغالبية الساحقة من المشاركين رغبتهم بضرورة إجراء الانتخابات العامة على أن تبقى الأولوية هي وقف العدوان وجريمة الإبادة الجماعية على شعبنا في قطاع غزة.
وعزز من هذه الوجهة أن 88% من المشاركين في استطلاع الرأي الذي أجراه مركز العالم العربي للبحوث والتنمية (أوراد) في 22/12/2024، كان مع إجراء الانتخابات فوراً.
وعليه فإننا نرى إجراء الانتخابات العامة والحفاظ على دوريتها وفق ما نص عليه القانون الأساسي الفلسطيني، وعلى أساس التمثيل النسبي الكامل وفق ما جاء في القرار بقانون رقم (1) لسنة 2021 بتعديل قرار بقانون رقم (1) لسنة 2007 بشأن الانتخابات العامة، هو ضرورة وطنية وديمقراطية قصوى قبل السابع من أكتوبر، وازدادت أهمية ذلك ما بعد السابع من أكتوبر، وهذا ما نتج عن لقاءات حريات الحوارية واستطلاع الرأي المشار إليه أعلاه، وأيضاً المرحلة الاستثنائية التي يمر بها شعبنا وقضيته الوطنية وحاجته الماسة لترتيب بيته الداخلي وبناء الوحدة الوطنية لتعزيز قوة العامل الذاتي الذي أثبت مناعته على مدار عقود من الزمن، وأثبت في السابع من أكتوبر وبعده، أنه الضمان الأقوى في التصدي لجرائم الاحتلال وإفشال سياساته خاصة في هذه المرحلة التي تعلن فيها حكومة الاحتلال أمام العالم قرارها بضم الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها، ومخاطر ذلك على مستقبل شعبنا وقضيته الوطنية ووجوده في وطنه.
مركز الدفاع عن الحريات والحقوق المدنية “حريات”
30/12/2024