بقلم حلمي الأعرج
خاضت الحركة الأسيرة وما زالت صراعها اليومي مع الاحتلال الإسرائيلي للحفاظ على وجودها وكيانها وضد السيطرة عليها وإخضاعها وضد محاولة مصلحة السجون عزلها عن امتدادها الوطني وإفراغها من محتواها الكفاحي.
هذه هي معادلة الصراع الدائر بين الحركة الأسيرة ومعها الشعب الفلسطيني ومصلحة السجون ومن خلفها الأجهزة الأمنية والحكومات الإسرائيلية وكل مكونات الاحتلال والتيتتوقف عليها نتيجة الصراع مع المحتل، فساحات السجون هي إحدى الساحات الرئيسية في النضال ضد الاحتلال والصراع اليومي معه، بل هي الساحة التي يتكثف فيها الصراع بكل أبعاده ومعانيه وتجلياته في كل لحظة وعلى مدار الساعة. لذلك فشل الاحتلال ولن ينجح أبداً في كسر إرادة الحركة الأسيرة والانتصار عليها .فرغم الإخلال الكبير في موازين القوى لصالحه وامتلاكه لكل أدوات السيطرة والقمع واستخدامه المحاكم العسكرية لفرض الأحكام العالية والجائرة، وممارسة الحرمان والعزل بكل أشكاله فإنه لم ينل من إراداتها ولم يضعف من عزيمتها ولم يمس قناعاتها وانتماءها الراسخ بعدالة قضيتها وحتمية انتصارها.
بل على العكس تماماً صمدت الحركة الأسيرة وتطورت ونضجت وازدادت قوةً وصلابةً ووعياً وانتماءً وتحدياً وتمكنت دوماً من فرض إرادتها ومطالبها على المحتل, وحافظت على وجودها وتطوره الموضوعي في السياق التاريخي الذي عاشته وعلى دورها ومكانتها في قلب الحركة الوطنية الفلسطينية كجزء أصيل منه ومكون أساسي وعضوي من مكوناته الرئيسية. هذا النضال اليومي الذي تجلّى بحكم قوانين الصراع الموضوعي مع الاحتلال شهد تقدماً وتراجعاً، انجازاً واخفاقاً، قوةً وضعفاً، ولكن الجوهري الذي يتميز به هذا النضال أنه دائماً مستمرٌ بلا توقف تقدمي ثوري وأصيل يقوم على التحدي لا على المساومة، وعلى الصمود لا على الانكسار. هذا الخط النضالي هو الذي صقل تجربة الحركة الأسيرة وأكسبها كل هذه الصفات القادرة على التصدي لإجراءات الاحتلال وسياساته. وفي هذا السياق أخذت التجربة الديمقراطية للحركة الأسيرة بالتبلور منذ نشأتها الأولى لحاجتها لكل الطاقات الفردية والجماعية من كافة التنظيمات وتجلت الممارسة الديمقراطية في كافة مناحي الحياة الداخلية والتنظيمية والوطنية والاعتقالية تعبيراً عن نضج وتطور الحركة الأسيرة ومؤشراً على عمق وعيها لواقعها ووجودها ومستقبلها ورؤيتها لدورها في الصراع اليومي مع إدارات السجون وفي النضال من أجل حرية الوطن واستقلاله. حيث وفّرت هيئات العمل الوطني المشترك بمختلف محاورها المشاركة الجماعية وعدم الاستفراد بالقرار من قبل أي فصيل مما اسهم في تعزيز الحياة الديمقراطية والعلاقات الوطنية على الساحة الاعتقالية وعكس نفسه إيجاباً في الحفاظ على استمراريتها وتطورها في حياة كل منظمة حزبية. هذه الممارسة أكدت على نظرة الحركة الأسيرة لقيمة الإنسان الأسير ومدى احترامها لكرامته وكيانه بصفته أداة النضال والقتال الرئيسية ووسيلة الدفاع عن الذات الجماعية ووسيلة الانتصار.
لا شك في أن هذه التجربة قد مرت بمراحل مختلفة وكانت المرحلة الأولى هي الأكثر صعوبة وتحدياً وفيها قُدمت التضحيات الجسام وبفعلها رسخت الحركة الأسيرة أقدامها وكرست وجودها كحركة ثورية تمثل امتداداً عضوياً للثورة الفسطينية. وفي مطلع الثمانينات، وهي بداية تجربتي في الأسر، لمست بوضوح هذه النجاحات من خلال الحالة التنظيمية التي كانت سائدة في سجن جنين ونابلس وفي مختلف السجون الأخرى.
وقد لعبت منظمات الجبهة الديمقراطية, أحد المكونات الرئيسة للحركة الأسيرة, دوراً طليعياً في الدفاع عن وجود الحركة الأسيرة وعن حقوقها الأساسية وفي تعزيز الممارسة الديمقراطية في حياتها اليومية سواء من خلال دورها في تطوير العلاقات الوطنية وترسيخ الوحدة الداخلية أو من خلال أدائها اليومي في العمل الأعتقالي ومشاركتها الفاعلة في التصدي لسياسات مصلحة السجون وإجراءاتها عبر دورها في اللجان النضالية ولجان الحوار أو في الشراكة الوطنية في آلية اتخاذ القرار. وقد عكست هذه التجربة نفسها في بنائها الداخلي وحياتها الداخلية فكان لها لوائحها الداخلية المشتقة من النظام الداخلي للجبهة والتي تحافظ على مبدأ المركزية الديمقراطية كناظم للعلاقات التنظيمية التي تراعي بتفاصيلها الخصوصية لكل منظمة والظروف الأعتقالية لكل سجن ,وتنظم العلاقة التي تحكم الحياة الداخلية للمنظمة.
الممارسة الديمقراطية في منظمات الجبهة الديمقراطية لم تكن يوماً ممارسة لذاتها كما لم تكن ترفاً فكرياً بل كانت ضرورة تنظيمية ووطنية وكفاحية تتيح للرفيق الانخراط بكل طاقاته في العمل والنضال اليومي للدفاع عن الحركة الأسيرة ووجودها ومكانتها وتطوير تجربته الثورية وتعميق وعيه السياسي وتعزيز انتماءه الوطني والقيام بواجبه الكفاحي داخل السجون وخارجها، لقناعتنا أن للممارسة الديمقراطية دوراً هاماً في إكساب الرفيق التجربة أثناء الاعتقال وتحصينه وبناءه لعبور مرحلة الاعتقال الطويلة والقاسية بسلاسة ونجاح وتصميمه على الاستمرار في النضال من أجل الحرية والاستقلال, وهنا تتجلى المهمة الثورية لمنظمات الجبهة في السجون ودورها في تعميق الانتماء الوطني للرفيق الأسير وكفاحه وتعزيز وتطوير بناءه الفكري والسياسي والوطني والأيدولوجي والاجتماعي أثناء الأسر ليتحرر منه ثورياً باسلاً معطاءً لمواصلة نضاله دون توقف وهذه النتيجة لن تتحق دون توفير كل درجات الاحترام له على كافة الصعد.
هذا ما سعت إليه منظمات الجبهة الديمقراطية وما مارسته وطبقته على أرض الواقع وهو ما فسّر لسنوات طويلة ولعقود من الزمن سر انتماء رفاق الجبهة الديمقراطية لحزبهم والاستمرار بعطائهم النضالي والوطني في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية. حيث كانت حياتنا التنظيمية زاخرة بالبناء والعطاء والممارسة الديمقراطية التزاماً بالنظام الداخلي للجبهة وباللائحة الداخلية للمنظمة وبالتقاليد والأعراف التي تكرست بفعل التجربة النضالية العريقة لمنظمات الجبهة وكوادرها الذي أسهموا في الحفاظ على هذه التقاليد وديمومتها من خلال عقد المؤتمرات الحزبية كل ستة أشهر مرة لانتخاب هيئة مسؤولة جديدة للمنظمة وسكرتيراً لها وتقييم ومحاسبة الهيئة السابقة، والبحث في التكليفات الجديدة في المهمات الداخلية والوطنية والاعتقالية، كاللجنة النضالية والثقافية ولجنة الحوار والصندوق العام ومرافق العمل، وكذلك تنظيم وضبط آليات العمل اليومي للمنظمة بما يكفل انتظام الاجتماع الأسبوعي وفق جدول أعمال يجعل الممارسة الديمقراطية عملية متواصلة ومستمرة. وقد تميزت منظمات الجبهة بحيوية في ممارسة النقد والنقد الذاتي. وبناءً على هذه التجربة تراكمت العملية البنائية والديمقراطية وتم انتخاب هيئة قيادية لمنظمات السجون كانت تتولى وما زالت البت في القضايا الاستراتيجية (النضالية، الاعتقالية، الأمنية وغيرها). وقد تعزز هذا الدور للهيئة القيادية لمنظمات الجبهة في السجون مع انتخاب أعضاء منها للقيادة المركزية واللجنة المركزية والمكتب السياسي للجبهة حيث تشارك منظمات السجون بشكل فعال في المؤتمرات الوطنية التي تعقدها الجبهة كل أربع سنوات بما في ذلك المؤتمر السادس الأخير.
مسار التجربة النضالية والديمقراطية للحركة الأسيرة شهد في مرحلة أوسلو وما بعدها تأثيرات وتداعيات هامة دفعت البعض لاستخلاص تقييم عام تمثَل في الحكم على الحركة الأسيرة بأنها لم تعد الحركة ذاتهاالتي كانت قائمة قبل اتفاق أوسلو. ونحن إذ نتفق جزئياً مع هذا التقييم، من زاوية أن هناك تغييرات بنيوية شهدتها الحركة الأسيرة إلا أننا نختلف جوهرياً مع هذا الحكم ونؤكد أن مكانة الحركة الأسيرة في الصراع اليومي مع الاحتلال ومصلحة السجون ودورها النضالي ما زال على حاله وليس أدل على ذلك من سلسلة المعارك البطولية والجماعية التي خاضتها الحركة الأسيرة خلال السنوات الثلاث الماضية والتي لم تتوقف لحظة بما في ذلك إضراب المعتقلين الإداريين الذي تجاوز الخمسين يوماً، وهو إضراب بطولي، عادل وباسل بكل ما للكلمة من معنى وهو من أصعب وأخطر وأهم الإضرابات التي خاضتها الحركة الأسيرة لأنه موجه ضد الحكومة الإسرائيلية وسياساتها التعسفية في ممارسة الاعتقال الإداري كعقاب جماعي وسيف مسلط على رقاب أبناء شعبنا, كذلك الأضرابات البطولية الفردية التي خاضها الشيخ خضر عدنان والرفيق سامر العيساوي والعشرات الذين خاضوا معارك الأمعاء الخاوية ضد سياسات مصلحة السجون وحكومة الاحتلال بعناوين مختلفة. كل ذلك يؤكد أن الطاقات النضالية الزاخرة للحركة الأسيرة لم تتأثر بالمتغيرات الخارجية وأن موقعها الموضوعي في النضال والصراع مع الاحتلال لم يتغير، بل بالعكس يأخذ أشكالاً أكثر احتداماً. ومنظمات الجبهة الديمقراطية هي الأخرى تأثرت نسبياً بالمتغيرات التي طرأت على الحركة الأسيرة، ما بعد أوسلو لكنها لم تؤثر على جوهر عمل المنظمة ودورها على مختلف الصعد البنائية والتنظيمية والثقافية ولا على رؤيتها لطبيعة الصراع وأبعاده , وقد تجلّى ذلك في موقف العشرات من رفاق الجبهة الذين رفضوا التوقيع على وثيقة التعهد التي عرضت عليهم مقابل الإفراج عنهم عند توقيع اتفاق القاهرة في 4/5/1994 والذي بموجبه أطلق سراح خمسة آلاف أسير وأسيرة من سجون الاحتلال. وهكذا فعل رفاق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذين كانت تربطنا بهم علاقة رفاقية مميزة في إطار القيادة الموحدة للجبهتين الديمقراطية والشعبية.
كما تجلّت الممارسة الديمقراطية للجبهة الديمقراطية ومنظماتها في الأسر بأرقى صورها ومعانيها عندما تصدت للانشقاق الذي وقع في صفوف الجبهة عام 1991 والذي سبقه عملية صراع داخلي تمخض عنها خروج عدد محدود من الرفاق إلى جماعة عبد ربه التي أعلنت عن نفسها لاحقاً حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسسطيني” فدا”.
هذه التجربة العصيبة انتهت بشكل ديمقراطي ودون عنف بل احترمت منظماتنا قرار الرفاق الذين قرروا مغادرة الجبهة داخل السجون وقد قمنا في منظمة الشهيد خالد نزال في سجن نابلس بصياغة بيان نضالي, قامت اللجنة النضالية بتعميمه على القاعدة الاعتقالية باسمها, تم الإعلان فيه عن فتح أبواب المنظمة أمام رفاقها لإعطاء الفرصة للراغبين منهم الانتقال لجماعة عبد ربه خلال 48 ساعة، وهكذا حصنت المنظمة نفسها وقطعت الطريق على أية تدخلات قد تثير إشاكالات على الساحة الاعتقالية.
إن منظمات الجبهة الديمقراطية في السجون لم تنقطع لحظة عن تاريخها بل استلهمت هذه التجارب التاريخية وراكمت عليها, وحمَلها بمسؤولية عالية وببسالة منقطعة النظير آلاف الرفاق الذين مرّوا على هذه المنظمات حفاظاً على وصايا الشهداء وعلى إرث القائد الرمز عمر القاسم، مانديلا فلسطين، عضو اللجنة المركزية للجبهة ورفاقه الأوائل الذين أسهموا مع مناضلي الحركة الأسيرة من كافة الفصائل في تشييد بنيانها والدفاع عن وجودها ومكانتها الكفاحية.
نحن وإذ نقوم بتقييم هذه التجربة لا يعني أنها أصبحت من الماضي، فهي ما زالت قائمة ومستمرة وقيمتها تتجلّى في استلهامها وليس بالتغني بها.