مركز الدفاع عن الحريات والحقوق المدنية

قراءة تحليلية بتعريف جريمة التعذيب بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب

علاء البدارنة

المستشار القانوني لمركز الدفاع عن الحريات والحقوق المدن\ية “حريات”

من الضروري إمتلاك الباحثين في مجال حقوق الإنسان لقراءة وفهم موحد لمفهوم التعذيب بالمعنى المقصود في اتفاقية مناهضة التعذيب وذلك بالاعت على نصوص الاتفاقية والتعليقات العامة الواردة عليها، الأمر الذي ينعكس بكل تأكيد على عملية الرصد والتوثيق والضغط والمناصرة المحلية والدولية، بهدف تحقيق الغرض العام للاتفاقية وهو القضاء على كافة أشكال العنف الذي تكون الدولة ممثلة بموظفيها الرسميين طرفاً به إما بارتكابها الفعل أو بموافقتها عليه أو بالسكوت عنه أو بالتحريض على ارتكابه حيث تعتبر بـأنها تمارس شكل من أشكال التعذيب وسوء المعاملة وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

عتد قراءة تعريف التعذيب الوارد في الاتفاقية بشكل معمق نجد أنه مكثف ودقيق من حيث المعاني ومترابط العناصر بشكل غير متسلسل الأمر الذي يثير مجموعة من الأسئلة، أهمها هل أن التعريف الوارد بنص المادة الأولى واسع وشامل أو أنه عكس ذلك حيث أنه يمثل الحدود الدنيا التي لا يجوز تجاوزها، وما صحة الاعتقاد النمطي السائد بأن اقتراف جريمة التعذيب يكون فقط في داخل مراكز التوقيف والاحتجاز و كذلك أن القصد من ارتكاب جريمة التعذيب هو فقط الحصول على معلومة أو اعتراف، وأيضاً هل سكوت الدولة أو موافقتها عن اتخاذ الإجراءات المناسبة لإنهاء العنف القائم على التمييز في سياقات اجتماعية معينة يمكن اعتباره شكل من أشكال التعذيب أو سوء المعاملة، وما هي الإجراءات القانونية الواجب إتباعها من قبل الموظفين الرسمين لتفادي اقتراف جريمة التعذيب ، واخيرا ما هو  المعيار لتحديد الفرق بين التعذيب وسوء المعاملة للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها في سياق العرض لا بد من استخراج العناصر الرئيسية للتعريف الواردة بنص المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب للوصول لمفهوم التعذيب بالمعنى المقصود في الاتفاقية.

تنص المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة “لأغراض هذه الاتفاقية يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص  ثالث- أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب يقوم على التميز أياً كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها”.

وهذا القصد من المقاصد المهمة  لحدوث للتعذيب التي يسندها تفسير الاستثناء الوارد على  مفهوم الألم أو العذاب المصاحب للعقوبة القانونية، حيث أن هذا الغرض يجب أن يتم فهمه بشكل واضح وجلي، وذلك لغرض تبيان الحد الفاصل بين صلاحيات المكلفين بإنفاذ القانون ومهام القضاء باعتباره الجهة التي لها صلاحية الإدانة بارتكاب فعل مخالف للقانون وإيقاع العقوبة المنصوص عليها قانوناً، وهذا الغرض من أغراض التعذيب يستخدم بشكل كبير من قبل المكلفين في إنفاذ القانون في الحياة العملية وعلى سبيل المثال حالات التجمع السلمي، عندما تحدث اشتباكات بين المتظاهرين والمكلفين بإنفاذ القانون الذين يعملون على فض التجمعات السلمية باستخدام القوة، حيث يقع على عاتقهم التزام قانوني بمراعاة مدونة استعمال القوة والسلاح الناري والإعمال التدريجي لاستخدام القوة.

فعند اعتقال المكلفين بإنفاذ القانون لأحد الأشخاص المشاركين وتوثيق يداه وحرمانه من حريته ينتهي الدور المناط بهم قانوناً لهذا الحد، وعليهم عرض الشخص المحروم من حريته على القضاء  الذي يوقع العقوبه عليه بالمقتضى القانوني فإذا تم الاعتداء عليه بالضرب بعد حرمانه من حريته يعتبر أن فعلهم هذا بقصد ايقاع العقوبة وهذا العمل يعتبر شكل من أشكال التعذيب.

كما يكفل الحق في الأمن الشخصي حماية الأفراد من تعمد إلحاق الأذى البدني أو الضرر العقلي بهم، بغض النظر عمّا إذا كان الضحية محتجزاً أو غير محتجز، حالة إلحاق الأذى البدني بشخص ما دون مبررات ويُلزِم الحق في الأمن الشخصي الدول الأطراف أيضاً باتخاذ تدابير مناسبة للتصدي إلى تهديدات القتل التي توجه إلى أشخاص في مجال العمل العام، وبشكل أعم اتخاذ تدابير لحماية الأفراد من المخاطر المتوقعة التي تهدد حياتهم أو سلامتهم البدنية من قبل أية أطراف فاعلة حكومية أو خاصة، وعلى الدول الأطراف التصدي بشكل ملائم لأنماط العنف الذي يمارس على فئات معينة من الضحايا مثل تخويف المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والانتقام من الشهود، والعنف ضد المرأة، بما في ذلك العنف العائلي، وترويض منتسبي التجنيد الإجباري في القوات المسلحة، والعنف ضد الأطفال، والعنف على أساس الميل الجنسي أو الهوية الجنسية، والعنف ضد الأشخاص ذوي الإعاقة وينبغي أيضاً أن تمنع الدول الأطراف الاستخدام غير المبرر للقوة في مجال إنفاذ القانون والتعويض عنه، وأن توفر الحماية لسكانها من الانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن الخاصة، والحماية من المخاطر الناجمة عن توافر الأسلحة النارية بشكل مفرط. ولا يعالج حق الفرد في الأمن الشخصي جميع مخاطر الصحة البدنية أو العقلية ولا يرتبط بالآثار الصحية غير المباشرة التي تلحق بمن يخضعون لإجراءات قانونية مدنية أو جنائية[6].

ج- تخويف الشخص أو إرغامه هو أو شخص ثالث

المتعارف عليه أن فلسفة تطبيق العقوبات الجزائية على المخالفين للقانون قائمة بشكل أساسي على حرمان الأشخاص المخالفين للقانون من حريتهم وهذا ما يسمى الردع الخاص الواقع على الشخص الذي يتحمل المسؤولية الشخصية الجزائية لمخالفته لقواعد القانون، وذلك لضمان عدم تكرار الجرم مرة أخرى وأيضاً بغية تحقيق الردع العام لنهي أي شخص آخر عن التفكير بمخالفة القانون، إلا أن قيام الموظفين الرسمين من تلقاء أنفسهم بمخالفة القانون وفلسفته وإقدامهم على تخويف الأشخاص أو إرغامهم على القيام بأفعال لا يرغبون بالقيام بها خارج نطاق الإجراءات القانونية يعتبر تعذيب بقصد التخويف ويمكن أن ينطبق هذا القصد على حالات الخطف بالزي المدني دون الإفصاح عن الجهة الأمنية وأيضاً يمكن أن ينطبق على اقتحام البيوت بساعات متأخرة من الليل طبعا إذا جرت لحالات لا تقتضيها الضرورة القصوى.

د-الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز

يعتبر مبدأ عدم التمييز مبدأ أساسياً وعامّاً في حماية حقوق الإنسان وجوهرياً لتفسير اتفاقية مناهضة التعذيب وتطبيقها، ويندرج جانب عدم التمييز ضمن نطاق تعريف التعذيب بحد ذاته في الفقرة (1) من المادة (1) من الاتفاقية التي تحظر صراحة أفعالاً محددة تنفّذ لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه “وتؤكد لجنة مناهضة التعذيب أن استخدام العنف أو الإيذاء النفسي أو البدني على نحو تمييزي هو عامل مهم في تحديد ما إذا كان الفعل يمثل تعذيباً[7]، ويؤكد المقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب السيد أ.مينديس بتقريره المقدم لمجلس حقوق الإنسان “الحاجة إلى تطبيق اتفاقية مناهضة التعذيب تطبيقاً يشمل الجنسين وذلك أن الدمج الكامل للمنظور الجنساني في أي تحليل للتعذيب وإساءة المعاملة هو أمر في غاية الأهمية لضمان الاعتراف الكامل بالانتهاكات الناجمة أصلاً عن قواعد اجتماعية تمييزية تدور حول نوع الجنس والأمور الجنسية وضمان التصدي لهذه الانتهاكات ومعالجتها”[8].

يتحمل المسؤولية الجزائية مرتكب الفعل أو المحرض عليه أو من يوافق عليه أو يسكت عنه، حيث أنه لا يمكن التذرع بوجود أوامر صادرة من جهات عليا بغرض التملص من المساءلة أو الهرب من المسؤولية الجنائية حيث ترى لجنة مناهضة التعذيب أنه من الضروري أن تجري النيابة العامة والسلطات القضائية المختصة تحقيقاً كاملاً في مسؤولية أي موظف من كبار الموظفين سواء عن التحريض أو التشجيع المباشر على التعذيب أو إساءة المعاملة أو الموافقة عليها أو السكوت عنها، فإذا عرفت سلطات الدولة أو الجهات الأخرى التي تتصرف بصفة رسمية أو تحت مظلة القانون بوجود موظفين غير حكومين أو أطراف فاعلة خاصة ترتكب أعمال التعذيب أو إساءة المعاملة، وكان لدى السلطات ما يدفع إلى الاعتقاد بارتكابها، وعجزت عن ممارسة العناية الواجبة لمنعهم والتحقيق معهم ومقاضاتهم بما يتفق وأحكام الاتفاقية، فإن الدولة تتحمل مسؤولية وينبغي اعتبار موظفيها مرتكبي هذه الأعمال غير المسموح بها أو متواطئين في ارتكابها أو مسؤولين بهذا الشكل أو ذاك بموجب الاتفاقية عن قبولها أو السكوت عنها، وقد طبقت اللجنة هذا المبدأ على الدول الأطراف التي تعجز عن منع العنف القائم على أساس الجنس كالاغتصاب، والعنف المنزلي، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، والاتجار بالأشخاص[9].

المادة 16 من الاتفاقية: “تتعهد كل دولة طرف بأن تمنع في أي اقليم يخضع لولايتها القضائية حدوث أي أعمال أخرى من أعمال سوء المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا تصل إلى حد التعذيب كما حددته المادة 1 عندما يرتكب موظف عمومي أو شخص آخر يتصرف بصفة رسمية هذه الأعمال أو يحرض على ارتكابها، أو عندما تتم بموافقته أو بسكوته عليها. وتنطبق بوجه خاص الالتزامات الواردة في المواد (10،11،12،13)، وذلك بالاستعاضة عن الإشارة إلى التعذيب بالإشارة إلى غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.

اعتبرت لجنة مناهضة التعذيب أن الالتزام بمنع التعذيب يتسم بطابع واسع النطاق والالتزامات بمنع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (المشار إليها بعبارة “إساءة المعاملة”) بموجب الفقرة (1) من المادة (16) هي التزامات غير قابلة للتجزئة ومتداخلة ومترابطة ويتداخل الالتزام بمنع إساءة المعاملة “بوجه خاص” على التدابير المبينة في المواد (10) إلى (13)، ولكنها لا تجعل المنع الفعال مقصوراً على هذه المواد، مثلما أوضحت اللجنة ذلك فيما يتعلق بالتعويض بموجب المادة (14) وعملياً الحد الفاصل بين مفهومي إساءة المعاملة والتعذيب يتسم في كثير من الأحيان بعدم الوضوح(يعتمد على القصد بإحداث الألم والعذاب)، إلا أن التجربة العملية تثبت أن الظروف التي تؤدي إلى سوء المعاملة تسهل التعذيب في كثير من الأحيان، لذلك يجب تطبيق التدابير اللازمة لمنع التعذيب من أجل منع إساءة المعاملة، وبناءً على ذلك اعتبرت اللجنة أن حظر إساءة المعاملة يشكل أيضا مبدأ غير قابل للتقييد بموجب الاتفاقية كما اعتبرت أن مكافحته تشكل تدبيراً فعالاً غير قابل للتقييد[10].

 

Exit mobile version