1

نحو إستراتيجية جديدة لإغلاق ملف الأسرى

بقلم حلمي الأعرج
 شهدت الحركة الأسيرة في الآونة الأخيرة تطورين في غاية الأهمية، الأول الإضراب المفتوح عن الطعام الذي أعلنه الأسرى في 27 من الشهر المنصرم لإنهاء سياسة العزل الانفرادي ووقف سياسة الموت البطيء التي يتعرض لها الأسرى المعزولون منذ سنوات طويلة، والتصدي لسلسلة الانتهاكات التي تمارس عليهم بقرارات غير مسبوقة اتخذتها الحكومة الإسرائيلية وأعلنتها على الملأ وأمام وسائل الإعلام المختلفة على لسان رئيسها نتنياهو. والثاني صفقة تبادل الأسرى التي نشهد تنفيذ فصولها ، والتي تعتبر بحق انتصاراً كبيراً لشعبنا ومقاومته وحركته الوطنية والأسيرة رغم وجود العديد من الملاحظات المهمة عليها والتي تستدعي لاحقاً نقاشاً مستفيضاً ومعمقاً على مستوى عموم الحركة الوطنية الفلسطينية لاستخلاص الدروس والعبر منها.
هذان التطوران أضفيا بعداً نوعياً جديداً على قضية الأسرى التي تحتل مكانة مرموقة في وعي وضمير ووجدان ونضال الشعب الفلسطيني، وأظهرا بوضوح هذه المكانة لكل المستويات السياسية والاجتماعية والقانونية الإقليمية والدولية، وأجابا على أسئلة كانت مطروحة وما زالت: كيف ولماذا تعاملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مع هذه القضية بهذه الطريقة وكيف استخدمتها ورقة للمساومة والابتزاز السياسي منذ توقيع اتفاقيات اوسلو وحتى اللحظة.
المهم هنا أن نلاحظ أن الحركة الأسيرة في كل هذه المراحل هي من دفعت الثمن غالياً عقودا من  الاعتقال والمعاناة كانت هي الأشد والأقسى والأكثر منهجية عليها منذ بدايات الاعتقال الأولى عام 1967 حيث بقي في الأسر رغم الإفراجات التي تمت سابقا 302 أسيراً اعتقلوا قبل توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993. وبذريعة الجندي الإسرائيلي شاليط تم تضييق الخناق وفرض اجراءات عقابية على الأسرى بقرارات سياسية وتشريعية واكبتها حملات اعلامية محمومة أطلقتها وسائل الإعلام واليمين الإسرائيلي الأمر الذي أدى إلى حالة من الغليان عمت ساحات السجون استعداداً للدفاع عن النفس والكرامة الوطنية والإنسانية لمواجهة الإمعان في سياسة العزل الإنفرادي والإهمال الطبي والتفتيش العاري والمذل، ومنع التعليم والعقوبات الجماعية والاعتداء بالضرب والرش بالغاز الخانق وسوء الطعام كماً ونوعا،ً وحرمان الآلاف من زيارات ذويهم وفرض تكبيل الأيدي والأرجل على الأسرى اثناء زيارات العائلات والمحامين، فشرع الأسرى بإضرابهم المفتوح عن الطعام الذي يمكن وصفه بأنه الأقسى والأصعب والأكثر خطورة في تاريخ نضال الحركة الأسيرة دفاعا عن حقوقهم المشروعة وتحديا لقرارات الحكومة الإسرائيلية الرامية لكسر إرادة الحركة الأسيرة وإضعاف شوكتها ومعنوياتها وعزلها عن محيطها ودورها الوطني.
إن رحلة العناء والعذاب الطويلة التي يعيشها الأسرى على مدى عقود من الزمن ما زالت مستمرة في ظل غياب دور المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الانسان العالمية لوضع حد لهذه المعاناة وفضح الانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى بشكل ممنهج ومخالف لكل المواثيق والأعراف والاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة الأسرى لعام 1957، فواصلت إدارات السجون بتوجيهات وقرارات من الحكومة الاسرائيلية حربها المعلنة والمستعرة على الأسرى دون مراعاة لحقوقهم وكرامتهم الإنسانية.
إن هذا الظلم والقهر والاستبداد والتنكيل بالأسرى وبعائلاتهم الذين يتعرضون هم أيضا لانتهاك فظ لكرامتهم الانسانية خلال الزيارات وأثناء المرور على الحواجز العسكرية والوقوف على بوابات السجون، عزز مكانة الحركة الأسيرة ودورها المتقدم في النضال ضد هذا الاحتلال الغاشم وسياساته العنصرية والوحشية وأبقاهم في الخندق الأول في الصراع اليومي مع الاحتلال ليس فقط في سبيل انتزاع حرية شعبهم واستقلاله وإقامة دولته المستقلة وعودة اللاجئين، انما أيضاً في الدفاع عن كرامتها الوطنية والإنسانية ومن أجل انتزاع حريتها وكسر قيدها، وليس أدل على ذلك من مواصلة الحركة الأسيرة ملحمتها البطولية التي سطرتها على مدى 21 يوماً من الاضراب المفتوح عن الطعام رغم الإعلان عن ابرام صفقة تبادل الأسرى وهي في اليوم الخامس عشر من هذا الإضراب.
إن الاستخلاص الرئيس من إبرام صفقة التبادل يتمثل في المضي قدماً بالعمل والنضال من أجل قطع الطريق على الحكومة الاسرائيلية التي رفضت الإفراج عن قدامى الأسرى على خلفية التصنيفات القائمة التي وضعتها في التمييز بين أسرانا، وها هي أشد الحكومات اليمينية تطرفا في تاريخ اسرائيل تقبل مرغمة الافراج عن 1027 أسيرا وأسيرة مقابل جندي اسرائيلي واحد، بينهم المئات من الذين تذرعت بأن “أياديهم ملطخة بدماء اليهود” في الوقت الذي رفضت هذه الحكومات الافراج عن هؤلاء الأسرى على مدى ثمانية عشر عاما من المفاوضات ولسان حالها يقول أن لا أهمية تذكر للعملية السياسية الجارية رغم معرفتها اليقينية بأهمية هذا الملف ومدى انعكاساته الإيجابية على مسار العملية السياسية الأمر الذي يستدعي وقفة جدية ومراجعة تقييمية لكسر هذه العنجهية ووضع قضية تحرير الأسرى واغلاق ملفهم على رأس الأولويات الوطنية للقيادة الفلسطينية والتصميم على رفض العودة للمفاوضات-(بالإضافة لشرطي وقف الاستيطان والاعتراف بحدود 67 كمرجعية للمفاوضات) قبل الإقرار بمبدأ الإفراج الشامل عن الأسرى دون استثناء وجدولة هذه العملية بسقف زمني لا يتجاوز العام وهو السقف الذي حددته اللجنة الرباعية في بيانها الأخير للوصول الى حل لجميع قضايا الحل النهائي.
إنها اللحظة السياسية المناسبة التي ينبغي التقاطها لحث المجتمع الدولي على تحمل مسؤولياته السياسية والقانونية والأخلاقية تجاه قضية الأسرى وفرض منهج جديد في التعاطي مع هذه القضية وكسر الاحتكار الإسرائيلي لها وسيلقى هذا الموقف صداه في التأييد الشعبي الواسع وفي التفهم الدولي الذي شاهد بنفسه حقيقة الموقف الاسرائيلي بهذا الصدد.
وإلى أن نصل الى تحقيق هذا الهدف الرامي هناك سلسلة خطوات ينبغي القيام بها لحماية أسرانا والحد من معاناتهم المستمرة والمتكررة، أهمها كف يد سلطات الاحتلال الاسرائيلي عن الاعتقالات اليومية التي تطال أبناء شعبنا وزجهم في السجون، وإغلاق سياسة الباب الدوار الذي يمارس على أسرانا عبر اتخاذ مواقف من شأنها إلزام الحكومة الإسرائيلية كالتلويح بوقف التنسيق الأمني. كذلك طرح قضية الأسرى على الجمعية العمومية للأمم المتحدة لضمان حقوقهم وإلزام الحكومة الإسرائيلية بالانصياع لأحكام القانون الدولي الناظمة لحقوق الاسرى وتشكيل لجنة دولية للتحقيق في ظروف احتجاز الأسرى، ووقف سلسلة الانتهاكات التي يتعرضون لها ودعوة منظمة الصحة العالمية لإلزام الحكومة الإسرائيلية باستقبال لجنة تقصي حقائق للإطلاع على أوضاع الأسرى المرضى، واطلاق سراح الحالات المستعصية منهم وفق ما نص عليه قرارها الصادر في 20 أيار 2010، والعمل مع الجامعة العربية لتنفيذ القرارات الصادرة عنها في اجتماعها الأخير الذي عقدته خلال الشهر الجاري أثناء الاضراب المفتوح عن الطعام، وصولا لتقديم مشروع قرار خاص يطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول الوضع القانوني للأسرى وحقوقهم والتزامات دولة الاحتلال اتجاههم. وأيضا الطلب من الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف الأربع لتحمل مسؤولياتها وعقد مؤتمرها الخاص لبحث مدى احترام دولة الاحتلال الاسرائيلي لالتزاماتها الناشئة عن أحكام هذه الاتفاقيات ووضع الاجراءات الكفيلة لحمل دولة الاحتلال على تنفيذ التزاماتها الناشئة عنها.
هذه أبرز ملامح الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية التي نقترح بلورتها انتصاراً والتزاماً بقضية أسرانا في المرحلة القادمة وتقديم الإجابة على السؤال المركزي الذي يطرح نفسه بالحاح من قبل الأسرى في السجون: ماذا بعد الإضراب المفتوح عن الطعام وعملية التبادل؟ هل سيظل الوضع على حاله؟ وهل سيبقى الأسرى يدورون في حلقة متواصلة من الانتهاك لحقوقهم وخوض الاضرابات المفتوحة عن الطعام؟ والى متى سيبقى الأسرى في السجون خاصة القدامى والمرضى منهم؟
اليوم وأكثر من أي وقت مضى شعبنا، القوى الوطنية، السلطة ، المجتمع المدني، عليهم جميعاً تقع مسؤولية الإجابة العملية على هذا السؤال آخذين بالاعتبار حالة النهوض التي نلمس مظاهرها في هذه الأثناء، فالخطاب التاريخي للرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة والأثر الذي تركه في أوساط المجتمع الدولي والفلسطيني وانتصار الأسرى في معركة الأمعاء الخاوية، وكسر سياسة العزل الانفرادي والإنجاز الكبير الذي تحقق بالإفراج عن كوكبة مهمة من الأسرى والأسيرات كلها عوامل نجاح تؤسس لمرحلة جديدة توفر الأرضية الملائمة لخوض معركة تحرير جميع الأسرى دون استثناء وفي مقدمتهم الأسرى القدامى والمرضى.